ADAB AL-DUNAYA WA AL-DIN

أَدَبُ الدِّينِ
                                    SUTEJO                                                        
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانهُ وَتَعَالَى
إنَّمَا كَلَّفَ الْخَلْقَ مُتَعَبَّدَاتِهِ ،
وَأَلْزَمَهُمْ مُفْتَرَضَاتِهِ ،
وَبَعَثَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ
وَشَرَعَ لَهُمْ دِينَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ دَعَتْهُ إلَى تَكْلِيفِهِمْ ،
وَلَا مِنْ ضَرُورَةٍ قَادَتْهُ إلَى تَعَبُّدِهِمْ ،
وَإِنَّمَا قَصَدَ نَفْعَهُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ
كَمَا تَفَضَّلَ بِمَا لَا يُحْصَى عَدًّا مِنْ نِعَمِهِ .
بَلْ النِّعْمَةُ فِيمَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ أَعْظَمُ ؛
لِأَنَّ نَفْعَ مَا سِوَى الْمُتَعَبَّدَاتِ مُخْتَصٌّ بِالدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ ،
وَنَفْعَ الْمُتَعَبَّدَاتِ يَشْتَمِلُ عَلَى نَفْعِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
وَمَا جَمَعَ نَفْعَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَانَ أَعْظَمَ نِعْمَةً وَأَكْثَرَ تَفَضُّلًا .
وَجَعَلَ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ مَأْخُوذًا مِنْ عَقْلٍ مَتْبُوعٍ ،
وَشَرْعٍ مَسْمُوعٍ فَالْعَقْلُ مَتْبُوعٌ فِيمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ ،
وَالشَّرْعُ مَسْمُوعٌ فِيمَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ ؛
لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْعَقْلُ ،
وَالْعَقْلُ لَا يُتَّبَعُ فِيمَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ .
فَلِذَلِكَ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى مَنْ كَمُلَ عَقْلُهُ
فَأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .
فَبَلَّغَهُمْ رِسَالَتَهُ ، وَأَلْزَمَهُمْ حُجَّتَهُ ،
وَبَيَّنَ لَهُمْ شَرِيعَتَهُ ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ ،
فِيمَا أَحَلَّهُ وَحَرَّمَهُ ، وَأَبَاحَهُ وَحَظَرَهُ ،
وَاسْتَحَبَّهُ وَكَرِهَهُ ، وَأَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ ،
وَمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ الثَّوَابِ لِمَنْ أَطَاعَهُ
وَأَوْعَدَ بِهِ مِنْ الْعِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ .
فَكَانَ وَعْدُهُ تَرْغِيبًا ، وَوَعِيدُهُ تَرْهِيبًا ؛
لِأَنَّ الرَّغْبَةَ تَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَةِ ،
وَالرَّهْبَةَ تَكُفُّ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ،
وَالتَّكْلِيفُ يَجْمَعُ أَمْرًا بِطَاعَةٍ وَنَهْيًا عَنْ مَعْصِيَةٍ .
وَلِذَلِكَ كَانَ التَّكْلِيفُ مَقْرُونًا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ ،
وَكَانَ مَا تَخَلَّلَ كِتَابَهُ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ ،
وَأَخْبَارِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ،
عِظَةً وَاعْتِبَارًا تَقْوَى مَعَهُمَا الرَّغْبَةُ ،
وَتَزْدَادُ بِهِمَا الرَّهْبَةُ .
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ بِنَا وَتَفَضُّلِهِ عَلَيْنَا .
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نِعَمُهُ لَا تُحْصَى وَشُكْرُهُ لَا يُؤَدَّى .
ثُمَّ جَعَلَ إلَى رَسُولِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيَانَ مَا كَانَ مُجْمَلًا ،
وَتَفْسِيرَ مَا كَانَ مُشْكِلًا ،
وَتَحْقِيقَ مَا كَانَ مُحْتَمَلًا ؛
لِيَكُونَ لَهُ مَعَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ ظُهُورُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ
وَمَنْزِلَةُ التَّفْوِيضِ إلَيْهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَأَنْزَلْنَا إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .

ثُمَّ جَعَلَ إلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِنْبَاطَ مَا نَبَّهَ عَلَى مَعَانِيهِ ،
وَأَشَارَ إلَى أُصُولِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ إلَى عِلْمِ الْمُرَادِ ،
فَيَمْتَازُوا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ وَيَخْتَصُّوا بِثَوَابِ اجْتِهَادِهِمْ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }

فَصَارَ الْكِتَابُ أَصْلًا وَالسُّنَّةُ فَرْعًا
وَاسْتِنْبَاطُ الْعُلَمَاءِ إيضَاحًا وَكَشْفًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ الْقُرْآنُ أَصْلُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ نَصُّهُ وَدَلِيلُهُ } ،
وَالْحِكْمَةُ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْأُمَّةُ الْمُجْتَمِعَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا .
وَكَانَ مِنْ رَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ وَتَفَضُّلِهِ عَلَى عِبَادِهِ
 أَنْ أَقْدَرَهُمْ عَلَى مَا كَلَّفَهُمْ ،
وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِيمَا تَعَبَّدْهُمْ ؛
لِيَكُونُوا مَعَ مَا قَدْ أَعَدَّهُ لَهُمْ نَاهِضِينَ
بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا }

وَقَالَ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }

وَجَعَلَ مَا كَلَّفَهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
قِسْمًا أَمَرَهُمْ بِاعْتِقَادِهِ ،
وَقِسْمًا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ ،
وَقِسْمًا أَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ ؛
لِيَكُونَ اخْتِلَافُ  جِهَاتِ التَّكْلِيفِ أَبْعَثَ عَلَى قَبُولِهِ ،
وَأَعْوَنَ عَلَى فِعْلِهِ ، حِكْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا .
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِاعْتِقَادِهِ قِسْمَيْنِ :
قِسْمًا إثْبَاتًا ، وَقِسْمًا نَفْيًا .
فَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَإِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ ، وَصِفَاتِهِ ،
وَإِثْبَاتُ بَعْثَتِهِ رُسُلَهُ ،
وَتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ .
وَأَمَّا النَّفْيُ فَنَفْيُ الصَّاحِبَةِ ، وَالْوَلَدِ ،
وَالْحَاجَةِ ، وَالْقَبَائِحِ أَجْمَعَ .
وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ أَوَّلُ مَا كَلَّفَهُ الْعَاقِلَ
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
قِسْمًا عَلَى أَبْدَانِهِمْ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ،
وَقِسْمًا فِي أَمْوَالِهِمْ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ ،
وَقِسْمًا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ ،
لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ وَيَخِفَّ عَنْهُمْ أَدَاؤُهُ نَظَرًا مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ ،
وَتَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ .
وَجَعَلَ مَا أَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :
قِسْمًا لِإِحْيَاءِ نُفُوسِهِمْ وَصَلَاحِ أَبْدَانِهِمْ ،
كَنَهْيِهِ عَنْ الْقَتْلِ ، وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالسُّمُومِ ،
وَشُرْبِ الْخُمُورِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ وَزَوَالِهِ .
وَقِسْمًا لِائْتِلَافِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ ،
كَنَهْيِهِ عَنْ الْغَضَبِ ، وَالْغَلَبَةِ ، وَالظُّلْمِ ،
وَالسَّرَفِ الْمُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ ، وَالْبَغْضَاءِ .
وَقِسْمًا لِحِفْظِ أَنْسَابِهِمْ وَتَعْظِيمِ مَحَارِمِهِمْ ،
كَنَهْيِهِ عَنْ الزِّنَا وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ .
فَكَانَتْ نِعْمَتُهُ فِيمَا حَظَرَهُ عَلَيْنَا كَنِعْمَتِهِ فِيمَا أَبَاحَهُ لَنَا ،
وَتَفَضُّلُهُ فِيمَا كَفَّنَا عَنْهُ كَتَفَضُّلِهِ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ .
فَهَلْ يَجِدُ الْعَاقِلُ فِي رَوِيَّتِهِ مَسَاغًا أَنْ يُقَصِّرَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ نِعْمَةُ عَلَيْهِ ،

أَوْ يَرَى فُسْحَةً فِي ارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْهِ ؟

وَهَلْ يَكُونُ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَأَهْمَلَهَا ،
مَعَ شِدَّةِ فَاقَتِهِ إلَيْهَا ،
إلَّا مَذْمُومًا فِي الْعَقْلِ مَعَ مَا جَاءَ مِنْ وَعِيدِ الشَّرْعِ ؟
ثُمَّ مِنْ لُطْفِهِ ِخَلْقِهِ وَتَفَضُّلِهِ عَلَى عِبَادِهِ
أَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ كُلِّ فَرِيضَةٍ نَفْلًا ،
وَحَمَلَ لَهَا مِنْ الثَّوَابِ قِسْطًا ،
وَنَدَبَهُمْ إلَيْهِ نَدْبًا ،
وَجَعَلَ لَهُمْ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا لِيُضَاعِفَ ثَوَابَ فَاعِلِهِ ،
وَيَضَعَ الْعِقَابَ عَنْ تَارِكِهِ .
وَمِنْ لَطِيفِ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ عِبَادَةٍ حَالَتَيْنِ :
حَالَةُ كَمَالٍ وَحَالَةُ جَوَازٍ ،
رِفْقًا مِنْهُ بِخَلْقِهِ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ
أَنَّ فِيهِمْ الْعَجِلَ الْمُبَادِرَ وَالْبَطِيءَ الْمُتَثَاقِلَ ،
وَمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى أَدَاءِ الْأَكْمَلِ
لِيَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ هَيْئَاتِ عِبَادَتِهِ غَيْرَ قَادِحٍ فِي فَرْضٍ ،

وَلَا مَانِعٍ مِنْ أَجْرٍ ،
فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْنَا وَحُسْنِ نَظَرِهِ إلَيْنَا .
وَكَانَ أَوَّلُ مَا فَرَضَ بَعْدَ تَصْدِيقِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ ،
وَقَدْ قَدَّمَهَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ ؛
لِأَنَّ النُّفُوسَ عَلَى الْأَمْوَالِ
أَشَحُّ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ أَسْمَحُ ،
وَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ .
SHOLAT
فَقَدَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الصِّيَامِ ؛
لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَسْهَلُ فِعْلًا ، وَأَيْسَرُ عَمَلًا ،
وَجَعَلَهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى خُضُوعٍ لَهُ وَابْتِهَالٍ إلَيْهِ .
فَالْخُضُوعُ لَهُ رَهْبَةٌ مِنْهُ ، وَالِابْتِهَالُ إلَيْهِ رَغْبَةٌ فِيهِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى صَلَاتِهِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ } .

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ اصْفَرَّ لَوْنُهُ مَرَّةً
وَاحْمَرَّ أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ،
فَقَالَ : أَتَتْنِي الْأَمَانَةُ الَّتِي عُرِضَتْ
عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلْتهَا أَنَا
فَلَا أَدْرِي أَأُسِيءُ فِيهَا أَمْ أُحْسِنُ .
ثُمَّ جَعَلَ لَهَا شُرُوطًا لَازِمَةً
مِنْ رَفْعِ حَدَثٍ ، وَإِزَالَةِ نَجَسٍ ؛
لِيَسْتَدِيمَ النَّظَافَةَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ ،
وَالطَّهَارَةَ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ .
ثُمَّ ضَمَّنَهَا تِلَاوَةَ كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ لِيَتَدَبَّرَ مَا فِيهِ ،
مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ،
وَيَعْتَبِرَ إعْجَازَ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ .
ثُمَّ عَلَّقَهَا بِأَوْقَاتٍ رَاتِبَةٍ ،
وَأَزْمَانٍ مُتَرَادِفَةٍ ؛
لِيَكُونَ تَرَادُفُ أَزْمَانِهَا وَتَتَابُعُ أَوْقَاتِهَا سَبَبًا
لِاسْتِدَامَةِ الْخُضُوعِ لَهُ وَالِابْتِهَالِ إلَيْهِ ،
فَلَا تَنْقَطِعُ الرَّهْبَةُ مِنْهُ وَلَا الرَّغْبَةُ فِيهِ ،
وَإِذَا لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ اسْتَدَامَ صَلَاحُ الْخَلْقِ .

وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ
يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهَا عَلَى الْكَمَالِ
أَوْ التَّقْصِيرِ فِيهَا حَالَ الْجَوَازِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ الصَّلَاةُ مِكْيَالٌ فَمَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ فِي الْمُطَفِّفِينَ } .

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ كَانَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَزَّ وَجَلَّ أَهْوَنَ } .

وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ الْفُصَحَاءِ فِي ذَلِكَ :
أَقْبِلْ عَلَى صَلَوَاتِك الْخَمْسِ
كَمْ مُصْبِحٍ وَعَسَاهُ لَا يُمْسِي
وَاسْتَقْبِلْ الْيَوْمَ الْجَدِيدَ بِتَوْبَةٍ
 تَمْحُو ذُنُوبَ صَبِيحَةِ الْأَمْسِ
فَلَيَفْعَلَنَّ بِوَجْهِك الْغَضِّ الْبِلَى
فِعْلَ الظَّلَامِ بِصُورَةِ الشَّمْسِ
ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّيَامَ
وَقَدَّمَهُ عَلَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ
لِتَعَلُّقِ الصِّيَامِ بِالْأَبْدَانِ .
وَكَانَ فِي إيجَابِهِ حَثٌّ
عَلَى رَحْمَةِ الْفُقَرَاءِ وَإِطْعَامِهِمْ
وَسَدِّ جَوْعَاتِهِمْ لِمَا عَايَنُوهُ مِنْ شِدَّةِ الْمَجَاعَةِ فِي صَوْمِهِمْ .

وَقَدْ قِيلَ لِيُوسُفَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - :
أَتَجُوعُ وَأَنْتَ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ؟
فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الْجَائِعَ .









PUASA
ثُمَّ لِمَا فِي الصَّوْمِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ وَإِذْلَالِهَا
وَكَسْرِ الشَّهْوَةِ الْمُسْتَوْلِيَةِ عَلَيْهَا
وَإِشْعَارِ النَّفْسِ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَاجَةِ
إلَى يَسِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ .
وَالْمُحْتَاجُ إلَى الشَّيْءِ ذَلِيلٌ بِهِ .
وَبِهَذَا احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى     
عَلَى مَنْ اتَّخَذَ عِيسَى 
وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِهِ ، فَقَالَ :
{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } .

فَجَعَلَ احْتِيَاجَهُمَا إلَى الطَّعَامِ نَقْصًا فِيهِمَا عَنْ أَنْ يَكُونَا إلَهَيْنِ .

وَقَدْ وَصَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ نَقْصَ الْإِنْسَانِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ

فَقَالَ : مِسْكِينُ ابْنُ آدَمَ مَحْتُومُ الْأَجَلِ ،
مَكْتُومُ الْأَمَلِ ، مَسْتُورُ الْعِلَلِ .
يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ
وَيَنْظُرُ بِشَحْمٍ ،
وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ .
أَسِيرُ جُوعِهِ ،
صَرِيعُ شِبَعِهِ تُؤْذِيهِ الْبَقَّةُ ،
وَتُنْتِنُهُ الْعَرَقَةُ وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ .
لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ،
وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا ، وَلَا حَيَاةً ، وَلَا نُشُورًا .
فَانْظُرْ إلَى لُطْفِهِ بِنَا ،
فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ الصِّيَامِ عَلَيْنَا .
كَيْفَ أَيْقَظَ الْعُقُولَ لَهُ ،
وَقَدْ كَانَتْ عَنْهُ غَافِلَةً أَوْ مُتَغَافِلَةً .
وَنَفَعَ النُّفُوسَ بِهِ وَلَمْ تَكُنْ مُنْتَفِعَةً وَلَا نَافِعَةً .
ثُمَّ فَرَضَ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ
وَقَدَّمَهَا عَلَى فَرْضِ الْحَجِّ ؛
لِأَنَّ فِي الْحَجِّ مَعَ إنْفَاقِ الْمَالِ سَفَرًا شَاقًّا ،
فَكَانَتْ النَّفْسُ إلَى الزَّكَاةِ أَسْرَعَ إجَابَةً مِنْهَا إلَى الْحَجِّ ،
فَكَانَ فِي إيجَابِهَا مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ ،
وَمَعُونَةً لِذَوِي الْحَاجَاتِ ،
تَكُفُّهُمْ عَنْ الْبَغْضَاءِ
وَتَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّقَاطُعِ وَتَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّوَاصُلِ ؛
لِأَنَّ الْآمِلَ وَصُولٌ وَالرَّاجِيَ هَائِبٌ ،
وَإِذَا زَالَ الْأَمَلُ وَانْقَطَعَ الرَّجَاءُ
وَاشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ وَقَعَتْ الْبَغْضَاءُ وَاشْتَدَّ الْحَسَدُ
فَحَدَثَ التَّقَاطُعُ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَالْفُقَهَاءِ ،
وَوَقَعَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْأَغْنِيَاءِ ،
حَتَّى تُفْضِيَ إلَى التَّغَالُبِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالتَّغْرِيرِ بِالنُّفُوسِ .
هَذَا مَعَ مَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ
مِنْ تَمْرِينِ النَّفْسِ عَلَى السَّمَاحَةِ الْمَحْمُودَةِ
وَمُجَانَبَةِ الشُّحِّ الْمَذْمُومِ ؛
لِأَنَّ السَّمَاحَةَ تَبْعَثُ عَلَى أَدَاءِ الْحُقُوقِ 
وَالشُّحَّ يَصُدُّ عَنْهَا .
وَمَا يَبْعَثُ عَلَى أَدَاءِ الْحُقُوقِ فَأَجْدَرُ بِهِ حَمْدًا ،
وَمَا صَدَّ عَنْهَا فَأَخْلِقْ بِهِ ذَمًّا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ شَرُّ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ شُحٌّ هَالِعٌ ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ } .

فَسُبْحَانَ مَنْ دَبَّرَنَا بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ ،
وَأَخْفَى عَنْ فِطْنَتِنَا جَزِيلَ نِعْمَتِهِ ،
حَتَّى اسْتَوْجَبَ مِنْ الشُّكْرِ بِإِخْفَائِهَا
أَعْظَمَ مِمَّا اسْتَوْجَبَهُ بِإِبْدَائِهَا .
ثُمَّ فَرَضَ الْحَجَّ فَكَانَ آخِرَ فُرُوضِهِ ؛
 لِأَنَّهُ يَجْمَعُ عَمَلًا عَلَى بَدَنٍ وَحَقًّا فِي مَالٍ .
فَجَعَلَ فَرْضَهُ بَعْدَ اسْتِمْرَارِ فُرُوضِ الْأَبْدَانِ وَفُرُوضِ الْأَمْوَالِ ؛
لِيَكُونَ اسْتِئْنَاسَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ
ذَرِيعَةً إلَى تَسْهِيلِ مَا جَمَعَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ .
فَكَانَ فِي إيجَابِهِ تَذْكِيرٌ لِيَوْمِ الْحَشْرِ بِمُفَارَقَةِ الْمَالِ وَالْأَهْلِ ،
وَخُضُوعِ الْعَزِيزِ وَالذَّلِيلِ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ ،
وَاجْتِمَاعِ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي الرَّهْبَةِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ ،
وَإِقْلَاعِ أَهْلِ الْمَعَاصِي عَمَّا اجْتَرَحُوهُ ،
وَنَدَمِ الْمُذْنِبِينَ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ ،
فَقَلَّ مَنْ حَجَّ إلَّا وَأَحْدَثَ تَوْبَةً مِنْ ذَنْبٍ
وَإِقْلَاعًا مِنْ مَعْصِيَةٍ ،
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ مِنْ عَلَامَةِ الْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ
أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا بَعْدَهَا خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَهَا } .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛
لِأَنَّ النَّدَمَ عَلَى الذُّنُوبِ مَانِعٌ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا ،
وَالتَّوْبَةَ مُكَفِّرَةٌ لِمَا سَلَفَ مِنْهَا .
فَإِذَا كَفَّ عَمَّا كَانَ يَقْدُمُ عَلَيْهِ أَنْبَأَ عَنْ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ ،
وَصِحَّةُ التَّوْبَةِ تَقْتَضِي قَبُولَ حَجَّتِهِ .
ثُمَّ نَبَّهَ بِمَا يُعَانِي فِيهِ مِنْ مَشَاقِّ السَّفَرِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ
عَلَى مَوْضِعِ النِّعْمَةِ بِرَفَاهَةِ الْإِقَامَةِ
وَأَنَسَةِ الْأَوْطَانِ لِيَحْنُوَ عَلَى مِنْ سُلِبَ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ .

ثُمَّ أَعْلَمَ بِمُشَاهَدَةِ حَرَمِهِ الَّذِي أَنْشَأَ مِنْهُ دِينَهُ ،
وَبَعَثَ فِيهِ رَسُولَهُ .
ثُمَّ بِمُشَاهَدَةِ دَارِ الْهِجْرَةِ
الَّتِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ طَاعَتِهِ ،
وَأَذَلَّ بِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ ،
حَتَّى خَضَعَ لَهُ عُظَمَاءُ الْمُتَجَبِّرِينَ ،
وَتَذَلَّلَ لَهُ زُعَمَاءُ الْمُتَكَبِّرِينَ .
إنَّهُ لَمْ يَنْتَشِرْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمُنْقَطِعِ ،
وَلَا قَوِيَ بَعْدَ الضَّعْفِ الْبَيِّنِ
حَتَّى طَبَّقَ الْأَرْضَ شَرْقًا وَغَرْبًا
إلَّا بِمُعْجِزَةٍ ظَاهِرَةٍ وَنَصْرٍ عَزِيزٍ .
فَاعْتَبِرْ إنْعَامَهُ عَلَيْك فِيمَا كَلَّفَك ،
وَإِحْسَانَهُ إلَيْك فِيمَا تَعَبَّدَك .
فَقَدْ وَكَّلْتُك إلَى فِطْنَتِك
وَأَحَلْتُك عَلَى بَصِيرَتِك
بَعْدَ أَنْ كُنْتُ لَك رَائِدًا صَدُوقًا ،
وَنَاصِحًا شَفُوقًا
هَلْ تُحْسِنُ نُهُوضًا بِشُكْرِهِ إذَا فَعَلْت مَا أَمَرَك ،
وَتَقَبَّلْت مَا كَلَّفَك ؟
كَلًّا إنَّهُ لَا يُوَلِّيك نِعْمَةً
تُوجِبُ الشُّكْرَ إذَا وَصَلَهَا
قَبْلَ شُكْرِ مَا سَلَفَ بِنِعْمَةٍ
تُوجِبُ الشُّكْرَ فِي الْمُؤْتَنَفِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ :
نِعَمُ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُشْكَرَ إلَّا مَا أَعَانَ عَلَيْهِ ،
وَذُنُوبُ ابْنِ آدَمَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُغْفَرَ إلَّا مَا عَفَا عَنْهُ .

وَأَنْشَدْت لِمَنْصُورِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْفَقِيهِ الْمِصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
شُكْرُ الْإِلَهِ نِعْمَةٌ مُوجِبَةٌ لِشُكْرِهِ
فَكَيْفَ شُكْرِي بِرَّهُ وَشُكْرُهُ مِنْ بِرِّهِ
وَإِذَا كُنْت عَنْ شُكْرِ نِعَمِهِ عَاجِزًا
فَكَيْفَ بِك إذَا قَصَّرَتْ فِيمَا أَمَرَك ،
أَوْ فَرَّطْت فِيمَا كَلَّفَك ،
وَنَفْعُهُ أَعْوَدُ عَلَيْك لَوْ فَعَلْته .
هَلْ تَكُونُ لِسَوَابِغِ نِعَمِهِ إلَّا كَفُورًا ،
وَبِبِدَايَةِ الْعُقُولِ إلَّا مَزْجُورًا ؟
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا }
قَالَ مُجَاهِدٌ :
أَيْ يَعْرِفُونَ مَا عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ
وَيُنْكِرُونَهَا بِقَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ وَرِثُوهَا عَنْ آبَائِهِمْ
وَاكْتَسَبُوهَا بِأَفْعَالِهِمْ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ يَقُولُ اللَّهُ يَا  ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي
أَتَحَبَّبُ إلَيْك بِالنِّعَمِ
وَتَتَمَقَّتُ إلَيَّ بِالْمَعَاصِي .
خَيْرِي إلَيْك نَازِلٌ
وَشَرُّك إلَيَّ صَاعِدٌ
كَمْ مِنْ مَلَكٍ كَرِيمٍ
يَصْعَدُ إلَيَّ مِنْك بِعَمَلٍ قَبِيحٍ } .
وَقَالَ بَعْضُ صُلَحَاءِ السَّلَفِ :
قَدْ أَصْبَحَ بِنَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا نُحْصِيهِ ،
مَعَ كَثْرَةِ مَا نَعْصِيهِ ،
فَلَا نَدْرِي أَيَّهُمَا نَشْكُرُ ،
أَجَمِيلَ مَا يَنْشُرُ ،
أَمْ قَبِيحَ مَا يَسْتُرُ .
فَحَقَّ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ
أَنْ يَقْبَلَهَا مُمْتَثِلًا لِمَا كُلِّفَ مِنْهَا
وَقَبُولُهَا يَكُونُ بِأَدَائِهَا ،
ثُمَّ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ مِنْ إسْدَائِهَا .
فَإِنَّ بِنَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى نِعَمِهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَلَّفَنَا مِنْ شُكْرِ نِعَمِهِ .
فَإِنْ نَحْنُ أَدَّيْنَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِي التَّكْلِيفِ
تَفَضَّلَ بِإِسْدَاءِ النِّعْمَةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ التَّكْلِيفِ ،
فَلَزِمَتْ النِّعْمَتَانِ
وَمَنْ لَزِمَتْهُ النِّعْمَتَانِ فَقَدْ أُوتِيَ حَظَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
وَهَذَا هُوَ السَّعِيدُ بِالْإِطْلَاقِ .
وَإِنْ قَصَّرْنَا فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفْنَا مِنْ شُكْرِهِ
قَصَرَ عَنَّا مَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ مِنْ نِعَمِهِ ،
فَنَفَرَتْ النِّعْمَتَانِ
وَمَنْ نَفَرَتْ عَنْهُ النِّعْمَتَانِ فَقَدْ سُلِبَ حَظَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحَيَاةِ حَظٌّ وَلَا فِي الْمَوْتِ رَاحَةٌ ،
وَهَذَا هُوَ الشَّقِيُّ بِالِاسْتِحْقَاقِ .
وَلَيْسَ يَخْتَارُ الشِّقْوَةَ عَلَى السَّعَادَةِ
ذُو لُبٍّ صَحِيحٍ وَلَا عَقْلٍ سَلِيمٍ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } .

وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ سُلَيْمٌ قَالَ ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
{ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّ هَذِهِ الْآيَةِ :
{ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } .
فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّ الْمُصِيبَةَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ } .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ :
أَحَدُ الْعَذَابَيْنِ الْفَضِيحَةُ فِي الدُّنْيَا ،
وَالثَّانِي عَذَابُ الْقَبْرِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ :
أَحَدُ الْعَذَابَيْنِ مَصَائِبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ،
وَالثَّانِي عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي النَّارِ .
وَلَيْسَ وَإِنْ نَالَ أَهْلُ الْمَعَاصِي لَذَّةً مِنْ عَيْشٍ
أَوْ أَدْرَكُوا أُمْنِيَةً مِنْ دُنْيَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً ،
بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا وَنِقْمَةً .
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَامِرٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ إذَا رَأَيْت اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعِبَادَ
مَا يَشَاؤُنِ عَلَى مَعَاصِيهِمْ إيَّاهُ
فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ
ثُمَّ تَلَا : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ }  

فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهَا
وَاسْتَقَرَّ التَّكْلِيفُ ،
عَقْلًا أَوْ شَرْعًا ،
بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَتَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ .
مِنْهَا مَا تَكُونُ النُّفُوسُ دَاعِيَةً إلَيْهَا ،
وَالشَّهَوَاتُ بَاعِثَةً عَلَيْهَا ،
كَالسِّفَاحِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ،
فَقَدْ زَجَرَ اللَّهُ عَنْهَا ؛
لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا ،
وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إلَيْهَا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الزَّجْرِ :
أَحَدُهُمَا : حَدٌّ عَاجِلٌ يَرْتَدِعُ بِهِ الْجَرِيءُ .
وَالثَّانِي : وَعِيدٌ آجِلٌ يَزْدَجِرُ بِهِ التَّقِيُّ .
وَمِنْهَا مَا تَكُونُ النُّفُوسُ نَافِرَةً مِنْهَا ،
وَالشَّهَوَاتُ مَصْرُوفَةً عَنْهَا ،
كَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالْمُسْتَقْذِرَات
وَشُرْبِ السَّمُومِ الْمُتْلِفَاتِ ،
فَاقْتَصَرَ اللَّهُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا
بِالْوَعِيدِ وَحْدَهُ دُونَ الْحَدِّ ؛
لِأَنَّ النُّفُوسَ مُسْتَعِدَّةٌ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا ،
وَمَصْرُوفَةٌ عَنْ رُكُوبِ الْمَحْظُورِ مِنْهَا .
ثُمَّ أَكَّدَ اللَّهُ زَوَاجِرَهُ بِإِنْكَارِ الْمُنْكِرِينَ لَهَا
فَأَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ
لِيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ
تَأْكِيدًا لِأَوَامِرِهِ ،
وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ
تَأْيِيدًا لِزَوَاجِرِهِ .
لِأَنَّ النُّفُوسَ الْأَشِرَةَ
قَدْ أَلْهَتْهَا الصَّبْوَةُ عَنْ اتِّبَاعِ الْأَوَامِرِ ،
وَأَذْهَلَتْهَا الشَّهْوَةُ عَنْ تِذْكَارِ الزَّوَاجِرِ .
وَكَانَ إنْكَارُ الْمُجَالِسِينَ أَزْجَرَ لَهَا ،
وَتَوْبِيخُ الْمُخَاطَبِينَ أَبْلَغَ فِيهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ مَا أَقَرَّ قَوْمٌ الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مُحْتَضَرٍ } .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ فَاعِلِي الْمُنْكَرِ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
أَنْ يَكُونُوا آحَادًا مُتَفَرِّقِينَ ،
وَأَفْرَادًا مُتَبَدِّدِينَ ،
لَمْ يَتَحَزَّبُوا فِيهِ ،
وَلَمْ يَتَضَافَرُوا عَلَيْهِ ،
وَهُمْ رَعِيَّةٌ مَقْهُورُونَ ،
وَأَفْذَاذٌ مُسْتَضْعَفُونَ ،
فَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ أَمَرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهْيَهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ ،
مَعَ الْمُكْنَةِ وَظُهُورِ الْقُدْرَةِ وَاجِبٌ
عَلَى مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ مِنْ فَاعِلِيهِ ،
أَوْ سَمِعَهُ مِنْ قَائِلِيهِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ ذَلِكَ
عَلَى مُنْكِرِيهِ
هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ .
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ ؛
لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِالْعَقْلِ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبِيحِ ،
وَوَجَبَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى مُجَانَبَتِهِ ،
وَأَبْلَغُ فِي مُفَارَقَتِهِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ إنَّ قَوْمًا رَكِبُوا سَفِينَةً فَاقْتَسَمُوا
فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضِعًا ،
فَنَقَرَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَوْضِعًا بِفَأْسٍ .
فَقَالُوا : مَا تَصْنَعُ ؟
فَقَالَ : هُوَ مَكَانِي أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْت .
فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ فَهَلَكَ وَهَلَكُوا } .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ ؛
لِأَنَّ الْعَقْلَ لَوْ أَوْجَبَ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ ،
وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الْقَبِيحِ ،
لَوَجَبَ مِثْلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ،
وَلَمَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ
بِإِقْرَارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْكُفْرِ ،
وَتَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ ، ؛
لِأَنَّ وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِالشَّرْعِ ،
وَفِي وُرُودِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِإِنْكَارِهِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَرْكِ إنْكَارِهِ مَضَرَّةٌ
لَاحِقَةٌ بِمُنْكِرِهِ
وَجَبَ إنْكَارُهُ بِالْعَقْلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا .
وَأَمَّا إنْ لَحِقَ الْمُنْكِرَ مَضَرَّةٌ
مِنْ إنْكَارِهِ وَلَمْ تَلْحَقْهُ مِنْ كَفِّهِ
وَإِقْرَارِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ بِالْعَقْلِ وَلَا بِالشَّرْعِ .
أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ اجْتِلَابِ الْمَضَارِّ الَّتِي لَا يُوَازِيهَا نَفْعٌ .
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ أَنْكِرْ الْمُنْكَرَ بِيَدِك فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِك ، وَذَلِكَ   أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } .

فَإِنْ أَرَادَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَعَ لُحُوقِ الْمَضَرَّةِ بِهِ نَظَرَ .

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إظْهَارُ النَّكِيرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ ،
وَلَا إظْهَارِ كَلِمَةِ الْحَقِّ ،
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ النَّكِيرُ إذَا خَشِيَ ،
 بِغَالِبِ الظَّنِّ ،
تَلَفًا أَوْ ضَرَرًا ،
وَلَمْ يُخْشَ مِنْهُ النَّكِيرُ أَيْضًا .
وَإِنْ كَانَ فِي إظْهَارِ النَّكِيرِ إعْزَازُ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَإِظْهَارُ كَلِمَةِ الْحَقِّ ،
حَسُنَ مِنْهُ النَّكِيرُ مَعَ خَشْيَةِ الْإِضْرَارِ وَالتَّلَفِ ،
وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ،
إذَا كَانَ الْغَرَضُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِالنَّكِيرِ وَإِنْ انْتَصَرَ أَوْ قُتِلَ .

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ إنَّ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ } .

فَأَمَّا إذَا كَانَ يُقْتَلُ قَبْلَ حُصُولِ الْغَرَضِ
قَبُحَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِنْكَارِهِ ،
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِنْكَارُ يَزِيدُ الْمُنْهَى
إغْرَاءً بِفِعْلِ الْمُنْكَرِ ،
وَلَجَاجًا فِي الْإِكْثَارِ مِنْهُ ،
قَبُحَ فِي الْعَقْلِ إنْكَارُهُ .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ :
أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْمُنْكَرِ مِنْ جَمَاعَةٍ قَدْ تَضَافَرُوا عَلَيْهِ ،
وَعُصْبَةٍ قَدْ تَحَزَّبَتْ وَدَعَتْ إلَيْهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ إنْكَارِهِ
عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْآثَارِ :
لَا يَجِبُ إنْكَارُهُ وَالْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ كَافًّا ،
مُمْسِكًا ، وَمُلَازِمًا لِبَيْتِهِ ، وَادِعًا غَيْرَ مُنْكِرٍ وَلَا مُسْتَفَزٍّ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِمَّنْ يَقُولُ بِظُهُورِ الْمُنْتَظَرِ :
لَا يَجِبُ إنْكَارُهُ وَلَا التَّعَرُّضُ لِإِزَالَتِهِ
إلَّا أَنْ يَظْهَرَ الْمُنْتَظَرُ
فَيَتَوَلَّى إنْكَارَهُ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُوا أَعْوَانَهُ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى ، مِنْهُمْ الْأَصَمُّ :
لَا يَجُوزُ لِلنَّاسِ إنْكَارُهُ
إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى إمَامٍ عَدْلٍ ،
فَيَجِبَ عَلَيْهِمْ الْإِنْكَارُ مَعَهُ .
وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ : إنْكَارُ ذَلِكَ وَاجِبٌ ، وَالدَّفْعُ عَنْهُ لَازِمٌ عَلَى شُرُوطِهِ فِي وُجُودِ أَعْوَانٍ يَصْلُحُونَ لَهُ .
فَأَمَّا مَعَ فَقْدِ الْأَعْوَانِ فَعَلَى الْإِنْسَانِ الْكَفُّ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يُقْتَلُ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَرَضِ ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ .
فَهَذَا مَا أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَوَامِرَهُ وَأَيَّدَ بِهِ زَوَاجِرَهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَمَا يَخْتَلِفُ مِنْ أَحْوَالِ الْآمِرِينَ بِهِ وَالنَّاهِينَ عَنْهُ .
ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو حَالُ النَّاسِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ ، مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي ، مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي .
وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الدِّينِ ، وَأَفْضَلُ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ جَزَاءَ الْعَامِلِينَ ، وَثَوَابَ الْمُطِيعِينَ .
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدَائِنِيُّ .
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الذَّنْبُ لَا يُنْسَى وَالْبِرُّ لَا يَبْلَى ، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ ، فَكُنْ كَمَا شِئْت ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ } .
وَقَدْ قِيلَ : كُلٌّ يَحْصُدُ مَا يَزْرَعُ ، وَيُجْزَى بِمَا يَصْنَعُ .
بَلْ قَالُوا : زَرْعُ يَوْمِك حَصَادُ غَدِك .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ، وَهِيَ أَخْبَثُ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَعَذَابَ الْمُجْتَرِئِ عَلَى مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الطَّيِّبَاتِ مَخَافَةَ الدَّاءِ ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي مَخَافَةَ النَّارِ .
فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : جِسْمُك قَدْ أَفْنَيْته بِالْحِمَى دَهْرًا مِنْ الْبَارِدِ وَالْحَارِّ وَكَانَ أَوْلَى بِك أَنْ تَحْتَمِي مِنْ الْمَعَاصِي حَذَرَ النَّارِ وَقَالَ ابْنُ صَبَاوَةَ : إنَّا نَظَرْنَا فَوَجَدْنَا الصَّبْرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنَ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ آخَرُ : اصْبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْ ثَوَابِهِ ، وَاصْبِرُوا عَنْ عَمَلٍ لَا صَبْرَ لَكُمْ عَلَى عِقَابِهِ .
وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْك .
فَقَالَ : كَيْفَ يَرْضَى عَنِّي وَلَمْ أُرْضِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيبُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي .
فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْمُجْتَرِئِ ؛ لِأَنَّهُ تَوَرَّطَ بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَقْلِعُوا عَنْ الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَكُمْ اللَّهُ هَتًّا بَتًّا } : الْهَتُّ الْكَسْرُ وَالْبَتُّ الْقَطْعُ .
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ تُفْسِدْ الشَّهْوَةُ دِينَهُ ، وَلَمْ تَتْرُكْ الشُّبْهَةُ يَقِينَهُ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : عَجِبْت لِمَنْ يَحْتَمِي مِنْ الْأَطْعِمَةِ لِمَضَرَّاتِهَا ، كَيْفَ لَا يَحْتَمِي مِنْ الذُّنُوبِ لِمَعَرَّاتِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ : أَهْلُ الذُّنُوبِ مَرْضَى الْقُلُوبِ وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ ؟ فَقَالَ : قَلْبٌ عَرَفَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ عَصَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَلِبَّاءِ : يُدِلُّ بِالطَّاعَةِ الْعَاصِي وَيَنْسَى عَظِيمَ الْمَعَاصِي .
وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك رَجُلٌ قَلِيلُ الذُّنُوبِ قَلِيلُ الْعَمَلِ ، أَوْ رَجُلٌ كَثِيرُ الذُّنُوبِ كَثِيرُ الْعَمَلِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ : مَا تَقُولُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ ؟ فَقَالَ : خَفْ اللَّهَ بِالنَّهَارِ وَنَمْ بِاللَّيْلِ .
وَسَمِعَ بَعْضُ الزُّهَّادِ رَجُلًا يَقُولُ لِقَوْمٍ : أَهْلَكَكُمْ النَّوْمُ .
فَقَالَ : بَلْ أَهْلَكَتْكُمْ الْيَقِظَةُ .
وَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا التَّقْوَى ؟ فَقَالَ : أَجَزْتَ فِي أَرْضٍ فِيهَا شَوْكٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ : كَيْفَ كُنْتَ تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : كُنْتُ أَتَوَقَّى .
قَالَ : فَتَوَقَّ الْخَطَايَا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : أَيَضْمَنُ لِي فَتًى تَرْكَ الْمَعَاصِي وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلَاصِ أَطَاعَ اللَّهَ قَوْمٌ وَاسْتَرَاحُوا وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ الْمَعَاصِي

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَيَكُفُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فَهَذَا يَسْتَحِقُّ عَذَابَ اللَّاهِي عَنْ دِينِهِ ، الْمُنْذَرِ بِقِلَّةِ يَقِينِهِ .
وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - كُلُّهَا عِبَرًا .
عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ يَتْعَبُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلِ فَإِنْ قَصَرَ بِكُمْ ضَعْفٌ فَكُفُّوا عَنْ الْمَعَاصِي } .
وَهَذَا وَاضِحُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ عَنْ الْمَعَاصِي تَرْكٌ وَهُوَ أَسْهَلُ ، وَعَمَلَ الطَّاعَاتِ فِعْلٌ وَهُوَ أَثْقَلُ .
وَلِذَلِكَ لَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ بِعُذْرٍ وَلَا بِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ وَالتَّرْكُ لَا يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ تَرْكَ الْأَعْمَالِ بِالْأَعْذَارِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ .
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً كَانَ قَوِيًّا فَأَعْمَلَ قُوَّتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ ضَعِيفًا فَكَفَّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعُمْرُ يَنْقُصُ وَالذُّنُوبُ تَزِيدُ وَتُقَالُ عَثَرَاتُ الْفَتَى فَيَعُودُ هَلْ يَسْتَطِيعُ جُحُودَ ذَنْبٍ وَاحِدٍ رَجُلٌ جَوَارِحُهُ عَلَيْهِ شُهُودُ وَالْمَرْءُ يُسْأَلُ عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي تَقْلِيلَهَا وَعَنْ الْمَمَاتِ يَحِيدُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي آفَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا تُكْسِبُ الْوِزْرَ وَالْأُخْرَى تُوهِنُ الْأَجْرَ .
فَأَمَّا الْمُكْسِبَةُ لِلْوِزْرِ فَإِعْجَابٌ بِمَا سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَقَدَّمَ مِنْ طَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَابَ بِهِ يُفْضِي إلَى حَالَتَيْنِ مَذْمُومَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُمْتَنٌّ بِهِ وَالْمُمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جَاحِدٌ لِنِعَمِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ : أَمَّا زُهْدُك فِي الدُّنْيَا فَقَدْ اسْتَعْجَلْت بِهِ الرَّاحَةَ ، وَأَمَّا انْقِطَاعُك إلَيَّ فَهُوَ عِزٌّ لَك ، فَهَذَانِ لَك وَبَقِيَتْ أَنَا .
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مُدِلٌّ بِهِ وَالْمُدِلُّ بِعَمَلِهِ مُجْتَرِئٌ ، وَالْمُجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ عَاصٍ .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : خَيْرٌ مِنْ الْعُجْبِ بِالطَّاعَةِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِطَاعَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : ضَاحِكٌ مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِهِ ، خَيْرٌ مِنْ بَاكٍ مُدِلٍّ عَلَى رَبِّهِ ، وَبَاكٍ نَادِمٌ عَلَى ذَنْبِهِ خَيْرٌ مِنْ ضَاحِكٍ مُعْتَرِفٍ بِلَهْوِهِ .
وَأَمَّا الْمُوهِنَةُ لِلْأَجْرِ فَالثِّقَةُ بِمَا أَسْلَفَ وَالرُّكُونُ إلَى مَا قَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ تَئُولُ إلَى أَمْرَيْنِ شَيْنَيْنِ : أَحَدُهُمَا يُحْدِثُ اتِّكَالًا عَلَى مَا مَضَى وَتَقْصِيرًا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ .
وَمَنْ قَصَّرَ وَاتَّكَلَ لَمْ يَرْجُ أَجْرًا وَلَمْ يُؤَدِّ شُكْرًا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَاثِقَ آمِنٌ .
وَالْآمِنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ خَائِفٍ ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى هَانَتْ عَلَيْهِ أَوَامِرُهُ ، وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ زَوَاجِرُهُ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : رَهْبَةُ الْمَرْءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ : لَأَنْ أَبِيتَ نَائِمًا وَأُصْبِحَ نَادِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قَائِمًا وَأُصْبِحَ نَاعِمًا .
وَقَالَ الْحُكَمَاءُ : مَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيك خَيْرٌ إلَّا أَنْ تَرَى أَنَّ فِيك خَيْرًا .
وَقِيلَ لِرَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ - رَحِمَهَا اللَّهُ - : هَلْ عَمِلْت عَمَلًا قَطُّ تَرَيْنَ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْك ؟ قَالَتْ : إنْ كَانَ شَيْءٌ فَخَوْفِي أَنْ يُرَدَّ عَلَيَّ عَمَلِي .
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ  
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - : إنَّا لِلَّهِ فِيمَا مَضَى مَا أَعْظَمَ فِيهِ الْخَطَرُ ، وَإِنَّا لِلَّهِ فِيمَا بَقِيَ مَا أَقَلَّ مِنْهُ الْحَذَرُ .
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الزُّهَّادِ وَقَفَ عَلَى جَمْعٍ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : يَا مَعْشَرَ الْأَغْنِيَاءِ لَكُمْ أَقُولُ : اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذُنُوبَكُمْ كَثِيرَةٌ ، وَيَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ لَكُمْ أَقُولُ : أَقِلُّوا مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّ حَسَنَاتِكُمْ قَلِيلَةٌ .
فَيَنْبَغِي - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك بِالتَّوْفِيقِ - أَنْ لَا تُضَيِّعَ صِحَّةَ جِسْمِك وَفَرَاغَ وَقْتِك بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ رَبِّك ، وَالثِّقَةِ بِسَالِفِ عَمَلِك .
فَاجْعَلْ الِاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِك ، وَالْعَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِك ، فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ مُسْتَسْعَدًا وَلَا مَا فَاتَ مُسْتَدْرَكًا ، وَلِلْفَرَاغِ زَيْغٌ أَوْ نَدَمٌ ، وَلِلْخَلْوَةِ مَيْلٌ أَوْ أَسَفٌ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : الرَّاحَةُ لِلرِّجَالِ غَفْلَةٌ وَلِلنِّسَاءِ غُلْمَةٌ .
وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ : إنْ يَكُنْ الشُّغْلُ مَجْهَدَةً ، فَالْفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إيَّاكُمْ وَالْخَلَوَاتِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ ، وَتُعَقِّدُ الْمَحْلُولَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : لَا تُمْضِ يَوْمَك فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ ، وَلَا تُضِعْ مَالَك فِي غَيْرِ صَنْعَةٍ .
فَالْعُمُرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَنْفَدَ فِي غَيْرِ الْمَنَافِعِ ، وَالْمَالُ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُصْرَفَ فِي غَيْرِ الصَّنَائِعِ .
وَالْعَاقِلُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفِنِي أَيَّامَهُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ وَخَيْرُهُ ، وَيُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِيمَا لَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ وَأَجْرُهُ .
وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - : الْبِرُّ ثَلَاثَةٌ : الْمَنْطِقُ وَالنَّظَرُ وَالصَّمْتُ .
فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغَا ، وَمَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارٍ فَقَدْ سَهَا ، وَمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا .

0 Response to "ADAB AL-DUNAYA WA AL-DIN"

Posting Komentar